حديث إلى الشباب
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
حديث إلى الشباب
للأستاذ الأديب أحمد أمين
في سن الشباب "ينعقد" الإنسان، ويتحدد قالبه، ويرسم خطة نجاحه وفشله، وليس له بعد الشباب إلا تنفيذ ما رسم، واستقبال ما قُضِي وقدر.
وعلى الجملة فحياته بعد شبابه هي حركة "القصور الذاتي" واستمرار في دفعة الشباب.
وإذا كُتب لكل إنسان تاريخٌ فكتب الناس متشابهة في أن أهم فصولها فصول شبابه وليس بعد "فصل" الشباب إلا فصل "النتيجة" وهل بعد صب العجين في القالب إلا التصلب، أو هل بعد استكمال المقدمات إلا النتائج، أو بعد انتهاء الفصول إلا الخاتمة، أو بعد انتهاء المهندس من رسم البناء والموافقة عليه إلا التنفيذ.
ولكن - وا أسفاه - يخطئ كثير من الشباب فيصب نفسه في قالب غير القالب الذي يناسبه، أو يؤلف كتاب تاريخه على غير ما خلق له، أو يرسم هندسة بنائه ومساحة نفسه التي يقيم عليها البناء لا قوائم شكل البناء فيخرج معيباً مشوهاً؛ فكثير من رجال الأعمال أضاعوا شبابهم في دراسة نظرية بحتة، وكثير ممن حسن استعدادهم للفلسفة والنظريات البحتة أضاعوا شبابهم في عمل يدوي، ففقدت الأمة نبوغَ هؤلاء وهؤلاء جميعاً، وكنا كأننا في مصنع يكنس أرضه المهندس، ويهندس آلاته الكناس، ويقوم بكل عمل فيه مَنْ لا يحسنه.
وهذا أكبر سبب في ضياع الشبان، وفساد الأعمال.
فنقطة البدء في حياة الشباب يجب أن تكون هي دراسة نفسه، وتعرُّفُه موضع نبوغه، ومواضع ضعفه، واختيار العمل الذي يعمله، ونوع الدراسة التي تناسبه، وتحديد الغاية التي ينشدها.
وليس يستطيع أي عالم، أو مرشد، أو ولي أمر أن يستكشف موضع النبوغ في الشاب كما يستطيع الشاب نفسه؛ فنفسه بين جنبيه هو أقدر على أن يقيسها ويقيس اتجاهاتها، وهو لو دقق النظر، وأخلص النية في تَعرُّف جوانبها ولم تغره المطامع الخادعة، والمظاهر الكاذبة- لعرف سرَّ نفسه، وموضع عظمته.
صعوبات الشباب:
وليست هذه هي الصعوبة الوحيدة للشباب، فهناك صعوبات عدة تعرضهم وتحاربهم، وتدفعهم إلى الشر، وتصدهم عن الخير.
من أهم هذه الصعوبات "الوراثة والبيئة" فهناك كثير من الشباب ورثوا الميل إلى الإجرام، والميل إلى الخمر، والميل إلى النساء ونحو ذلك عن آبائهم، وظلت هذه الجذور الموروثة كامنةً فيهم مدةَ صباهم حتى إذا دخلوا في دور الشباب تحركت هذه الميول بقوة وشدة؛ فظهرت فيهم مرعبة مزعجة.
كما أن كثيراً من الظروف السيئة تحيط بالشاب الطيب، فتلتهم ميوله الطيبة، وتهدم آماله وطموحه، وتستأصل شعوره بالشرف والنبل، وتجعل على عقله غشاوة؛ فلا يستطيع التفكير، وتجعل كل طموحه، وكل أمله، وكل تفكيره في شهوات وضيعة، وكل يوم تقوم لنا البراهين العدة على هذا.
فمن هذه الظروف "الصداقة السيئة" فقد يكون الشاب طاهراً نقياً، فما هو إلا أن يصاب بصديق يفتح له حديث الشر، ويحيي فيه كوامن شهواته، ويقص عليه مغامراته ومغامرات أمثاله في النساء وفي الشراب، ويستدرجه من سيجارة يدخنها، إلى كأس يشربها، إلى ما هو أسوأ من ذلك، فإذا رأسه مشتعل بالشر، وإذا هو يطلِّق كل ما اعتنقه من مبادئ الخير، وإذا هو لا يصلح لجدٍّ ولا لدراسة وإذ هو لا يصلح إلا لضروب الشر.
ومثل هذه الصداقة، صداقة الكتب والمجلات والجرائد التي من هذا النوع، فهناك أنواع من الأدب مضلةٌ مغويةٌ، وكم من الشباب اتخذوا مثلهم العليا من روايات السينما الداعرة الفاتكة بالعقول، الممثلة للجرائم واللصوصية، المحركة لأسفل أنواع الشهوة، وكذلك الكتب، والمجلات، والصحف، والصور التي من هذا القبيل.
ومما نأسف له أن هذا النظر، وهذا القول يعد عند بعض الشبان من أخلاقية القرون الوسطى لا يصح أن ينطبق على عصورهم وزمنهم.
والواقع أن التجارب التي أجريت والحريات التي مُنحت في هذا الباب دلت على صحة أخلاقية القرون الوسطى، وأصبح المعاصرون من كتاب أرقى الأمم الممدنة يخشون من تهور الشباب في هذا الباب، وأصبحوا في فزع مما يرونه من المآسي التي يرتكبها الشاب باسم الحرية.
كيف يبني الشاب نفسه؟:
والآن نتساءل: ماذا يجب أن يكون الشاب وكيف الوصول إلى ما يجب؟
أول واجب على الشاب أن يبني نفسه؛ فينظر في ملكاته واستعداداته، ويكوِّن منها نفسه على أحسن وضع يمكن أن تكون عليه المواد الأولية.
والناس كلهم مختلفون في كمية الملكات والاستعدادات وكيفياتها، ولكن كل كمية وكيفية يمكن أن يصاغ منها إنسان جيد في ناحية من النواحي، له شخصية ممتازة نوع امتياز، وليس يفسد هذا العمل إلا عدم القدرة على البناء، أو عدم الاهتداء لخير الأشكال؛ يجب أن يبني نفسه جسمياً وعقلياً وخلقياً؛ فيرسم له مثلاً أعلى محدوداً في كل ناحية من هذه النواحي، ويرسم خطة السير للوصول إلى هذه الغاية، ولا يترك نفسه سهلاً كالسفينة بلا قائد تتقاذفها الأمواج، وتدفعها الرياح كما تهوى.
ولا يتسنى له ذلك إلا إذا امتلأ عقيدة بخير هذا المثل، ومناسبته له.
وقد دلت التجارب على أن القلب لا العقل هو الذي يبني الإنسان ويكتب تاريخه، ويحدد مقدار نجاحه، فلا خير في عقل كبير لا قلب معه، وتاريخ الإنسانية يشهد أن خدمة القلوب الكبيرة له- أقوى من خدمة العقول الكبيرة.
وأهم ما يدعو إليه القلب، ويتطلبه من الشاب أن يكون "رجل" والرجولة وصف جامع لكثير من الصفات المحمودة: أهمها الجد في العمل، والشجاعة في مواجهة الصعاب، والحرص على المبادئ.
وهذه الصفة - نحن الشرقيين - أحوجُ ما نكون إليها الآن، وأحق صفة لكثرة الكلام فيها؛ لأني أرى في الشباب ميلاً إلى الانحدار، والتحلل من الواجبات، وعدم الاكتراث بالمبادئ، والميوعة في السلوك.
وهي كلها مظاهر لقلة "الرجولة" أو عدمها، وهي أكبر سبب فيما نرى من عدم نجاح الشبان في الأعمال الحرة؛ فالعمل الحر يتطلب جدَّاً فائقاً ونشاطاً كبيراً، وعملاً شاقاً في زمن طويل، وإعمال العقل في الابتكار والتفكير في وسائل النجاح، فإذا لم يكن الشاب مسلحاً بكل هذه الخصال فشل فشلاً تاماً.
لماذا يفشل الشاب:
ولعل من أكبر أسباب هذا الفشل وعدم هذا الخلق - خلق الرجولة - أن الآباء لم يتعودوا عندنا أن يزجوا بأبنائهم الشبان في معترك الحياة، ويحملوهم عبء أنفسهم، بل يفتحون لهم صدورهم، وبيوتهم، وجيوبهم حتى بعد أن يتخرجوا من المدارس العالية، ويتركونهم في البيت يأكلون، ويشربون، وينامون وينعمون، وكل عملهم السعي في دواوين الحكومة لعلهم يجدون لهم "وظيفة".
ولم يعتد الآباء فينا هذه العادة الجيدة التي اعتادها الغربيون وهي أنهم منذ تعليمهم يطلبون منهم أن يصطدموا بالحياة، ويلجؤونهم أن يجدوا لهم عملاً وأن يبحثوا لهم عن قوت، وأنهم - وقد أعانوهم على إتمام دروسهم - قد أنهوا الواجب عليهم؛ فوجب على الشاب أن يحمل عبء نفسه، ويتعلم أن يعوم في الحياة كما يعوم في البحر، وأن يكافح الأمواج، ويحارب الصعاب، ويبذل جهده حتى يجد قُوتَه؛ فهذا هو ما يبني الشاب حقاً، ويستخرج منه الرجولة.
أما طريقتنا التي نسير عليها فلا نتيجة لها إلا ما نشاهد من ميوعة، وتسكع على أبواب المصالح الحكومية.
وللوصول إلى هذا يجب أن يكون الشاب - دائماً - باسماً للحياة متفائلاً لا متشائماً آملاً في النجاح؛ فاليأس يستلزم الفشل والخيبة، ويسمم الحياة كما يسمم "المكروب" الماء.
وأخيراً على الشاب أن يمتلئ شعوراً بأنه مكلف أن يفعل ما يستطيع لتصحيح الخطأ الذي يقع فيه الناس من جرائم وشرور؛ فلا يكون في حياته أنانياً بحتاً لا ينظر إلا إلى نفسه، بل هو مطالب بعد أن يبني نفسه: أن يشترك في بناء أمته، وفي بناء الإنسانية عامة على قدر جهده وكفايته بخلقه وبعلمه وبماله وجاهه.
على الشباب أن يكونوا قوةً فاعلة دائمة في حياة أمتهم، ويجب أن يتحملوا في الحياة أكبر عبء؛ لأن حيويتهم في الأمة أقوى حيوية.
وهم المقياس الصحيح لرقي الأمة أو انحطاطها؛ فإذا أردت أن تعرف هل ارتقت أمة أو انحطت وما مقدار هذا الرقي أو الانحطاط فاعرف الفرق بين شباب الأمة وشيوخها، فبمقدار تفوق الشبان على الشيوخ في العلم والخلق والصحة يكون الرقي، وبمقدار ضعفهم عن الشيوخ في ذلك يكون الانحطاط.
إن كل طبقة من طبقات الأمة لها رسالة يجب أن تؤديها وليس في كل هذا أجدى، وأنفع من أن يؤدي الشباب رسالتهم.
R.F.Z- عضو مميز
- عدد الرسائل : 67
العمر : 38
تاريخ التسجيل : 15/12/2007
مواضيع مماثلة
» حديث النبوة عن الشباب
» أريد فتوى حول القروض التي تمنحها الدولة للمقاولين الشباب. هل هي حرام أم لا؟
» أريد فتوى حول القروض التي تمنحها الدولة للمقاولين الشباب. هل هي حرام أم لا؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى