حكاية فتاة من بغداد
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
حكاية فتاة من بغداد
[color:00e1="Green"]
لا أدري هل أستمر في الإنصات إليها أم أختلق الأعذار لأنسحب، على الرغم من أن جميع الاعتذارات تلاشت من أمامي، وأجد نفسي منصاعة على البقاء لسماع قصتها، وأي قصةٍ...!! عسى فؤادي أن يستوعب ويعي!! هل هي حكاية العشق التي سطرتها شهريار لتبقي على حياتها، أم هي الليلة الثانية بعد الألف التي لم يسعف الوقت شهريار أن ترويها..
هذه هي الليلة الثالثة تمضي وكأنها قرنٌ يضاف إلى حياتها متلهفة لاهثة تبحث عمن يدلها عليه، لم تترك جاراً إلاّ وسألت عنه، لم تنرك شارعاً إلا وبحثت فيه عنه... يومٌ ثالث يمر وأخباره منقطعة، يا إلهي!! ما المخرج؟ وما الحيلة؟! ترفع كفيها في جوف الليل تتضرع إلى الله قائمة وقاعدة... إلهي نام الآمنون، وغفا المطئنون، وأنا يا ربي واقفة ببابك... ألوذ، بجلالك أستغيث وأعوذ، انقطعت بي السبل وضاقت بي الحيل، ولم يبق لي إلا سبيلك.. واشتد الظلام عليّ ولم يبق لي إلاّ نورك أسألك يا الله أن ترشدني إليه وتدلني عليه، اللهم إن لم يكن رحمةً بي وأنا الأمة الفقيرة إلى ذاتك، الواقفة على بابك، فرحمةً ببناتٍ في عمر الزهور، وطفلٍ يلتحف الخوف جسده المقهور، وأمٍّ رؤوم مسها الضر وأنت وهابٌ غفور... فارفق يا إلهي بحالنا، ودلنا على مكانه، يا أرحم الراحمين..
وبزغ الفجر وتسلل نوره إلى حجرتها حاطاً رحاله في عينيها اللاتي لم تعرفا النوم منذ ثلاث ليالٍ متعاقبة، وإذا هاتفها يرن، ويخاطبها من الطرف الآخر صوتٌ جهوري غير مألوفٍ ولا معروف: تعالي إلينا في مركز الطب العدلي للتحدث في أمرٍ هام.
إحساس غامض أصابها وأقعدها عن الحركة، وأخرسها عن الكلام بعد ذهولٍ وصمت مطبق قطعه صوت المتحدث على السماعة لتأكيد الموعد. أجابته بهدوءٍ بالغ: نعم سآتي.. سآتي.
استجمعت أنفاسها وقامت تجر خطواتها تستعد للذهاب إلى المقابلة، وأخواتها يتسابقن إليها وهي تغادر الدار تحاصرها دموعهن واستغاثتهن لها ألاّ تعودي إلاّ بخبرٍ عنه، وأمها من بعيد تتبعها بعينٍ وجلةٍ خائفةٍ تترقب، أما هي فليس في يدها ما تملكه غير ابتسامةٍ صفراء توزعها على أخواتها الثلاث وأمها وأخ صغير تتصارع في مخيلته أسئلة وعلامات لا يجد لها جواباً.
تمشي في شوارع بغداد.. آهٍ يا بغداد.. ماذا فعلتِ بنا يا مدينتي، أهذه عاصمة الرشيد؟ أهذه قبلة الحب ومهد العاشقين؟ آهٍ يا بغداد.. قسوتِ علينا فانحنى ظهري من فرط حبي لكِ.. هل مللتِ قينات الجواري لتسكبي خمرك في الجماجم والأجساد؟ هل مللتِ جريان الماء على أرضكِ يانهر الرافدين واشتقت لرائحة الدم وصليل الأصفاد؟ لماذا يا بغداد؟ لماذا يا بغداد..؟!
بقدر ما عشقتك كرهتك يا عراق.. بقدر ما آمنت بك كفرت بك يا عراق ..!!
ما هذه الأرض التي أصبحت تعج برائحة الدماء؟! ما هذه الأرض التي صارت مفروشة بالأشلاء؟! أي حياة هذه التي نحياها؟! وأيُّ مكانٍ هذا الذي لا يمكن أن يأوي حتى الجرذان..؟!
نعم .. إنها الجرذان القذرة التي انتشرت في الأرض فأخرجتنا من ديارنا.. هذا جرذ صغير وإن ارتدى قبعة على رأسه، ويلوك العلكة بفمه، مخفياً عينيه وراء نظارة شمسية، ومتشحاً بندقيته على كتفه، وذاك جرذٌ آخر، وهناك أيضاً واحد، جرذٌ فوق المدفع، وجرذٌ آخر يرتع، جرذٌ قبيح المنظر، وجرذٌ آخر أفظع، وآخر قذر المطلع.. لقد مللت رؤيتكم .. أكرهكم وأكره كل عبارات السلام التي نسجتموها على أجسادنا، وكتبتم أحرفها مدادها أحمر قانياً من دمائنا...!!
تجرُّ خطاها متثاقلة لتلحق بالموعد في الطب العدلي وبداخلها ترتسم عشرات الصور، وعشرات الحكايات. هل ستراه هناك؟ هل -سيخبرونها بأنهم نفوه وطردوه؟ بل ربما سيفاجئونها بأنه كان من غير المرضي عنهم في عمله فسجنوه؟ لا .. لا .. لا هذا ولا ذاك .. بل ربما أنه حصل خلافٌ بينه وبين رئيسه في العمل ففصلوه؟ أو ربما أنه أرهق نفسه في العمل كثيراً فأغمي عليه فلم يجدوا إلاّ أن يبحثوا عن أقرب مشفًى ليسعفوه؟
ابتسامة صفراء باهتة ترتسم على شفتيها.. ونظراتٍ حزينة ملتهبة في مقلتيها.. هي تعلم أنها تحاول أن تغالط نفسها بكل ما تتخيله، فهي تعلم إلى أين هي ذاهبة؟ وما الذي ينتظرها هناك..!! ولكنه الأمل الواهي، أو السراب الخادع الذي يعلل به الظمآن عطشه..!!
وصلت إلى المركز وعيناها تحدق به وببوابته التي تتزاحم عليها عشرات الأرامل والثكالى، وعشرات الشيوخ والعجائز، وعشرات الأطفال والرضع... صوتُ نحيبٍ هنا، وعويل هناك، ودماء هنا وأشلاء هناك، أناس قابعون على الجثث يتابعون شاشات عرض الصور، لم ترَ صور بشر ولكن أشباه وبقايا بشر .. كانت الشابة الوحيدة بينهم.. شابة!! أي شباب أبقيتم فيها؟ أشبابٌ يكتسي السواد حياته وتتيه من قدميه كل معاني الأمان؟! أشبابٌ تحفر في خديه العشرينية تجاعيد الزمان..؟! دخلت تتفحص وجوه مَن أمامها بين أرامل وعجائز وشيوخ... وهي وحيدةٌ ... لقد تركها الجميع .. الكل خشي أن يصطحبها إلى هذا المكان البائس، ليس خوفاً منه، ولكن خوفاً أن يكونوا ضمن أشلائه. تحدثها نفسها: لا أدري هل ألومهم وألوم جبنهم وخوفهم، أم أعذرهم وأعذر قسوة الزمان التي جعلتهم أقزاماً أمامه؟! حتى النخوة والشهامة جردتمونا منها يا جرذان!!
بشخصيتها الأنيقة على الرغم مما هي فيه، وبنظرتها الهادئة كعادتها وقفت أمامه وسألته: أين هو؟ لم يجتهد مدير المركز الطبي كثيراً في تهدئتها؛ فقد كفته عناء هذه المهمة، لقد كانت تعرف أنها قادمة على أمرٍ خطير في حياتها... على خطب من المحتمل أن يغيرها ويقلب حياتها رأساً على عقب..!!
لا أدري لماذا شعرتُ في لحظة ما أن عشقي للحزن لم يأتِ من فراغ على الرغم من المساحة الشاسعة بين الأحزان.. عظيمة هي دائماً بفرحها وترحها، في هدوئها وشقائها، عظيمة هي فتاة بغداد بروحها التي تعرف متى تكتم أنفاس الألم لكي تسعد من أمامها ولو على حساب مشاعرها.. كم سيحتمل فؤادها.. وكم ستظل تخبئ حُطام قلبها وراء ابتسامة تسعد بها من حولها..؟! كبرتِ على الهم ياصغيرتي .. وجارتَ عليكِ الأيام، ولكن ما يحيل الغصة إلى ومضة أملٍ أن قلبك لا يعرف الاستسلام.. ولا يعرف اليأس ولا الظلام.. قلبكِ يا فتاتي دوماً يشع نوراً من الله يعطيه القوة والصبر .. يلهمه الشجاعة والنصر..
أخذت مكانها وجلست وبدأ شريط الصور يدور أمامها مستعرضة صور الجثث الموجودة، وخفقات قلبها تتسارع، بل أوشكت على التوقف؛ هذا مطموس العينين ولكنه ليس هو، وهذا محروق من منتصف جسده ولكن ليس هو، وهذا مقطوع الأطراف، وهذا مخروم الجسد، وهذا منزوع العينين، وهذا مبتور الساقين، وهذا مقصوص الشفتين .. يا الله يا الله، وتتابع الصور، وبعد كل صورة يأتيها في لحظة خاطفة ألف سؤال وسؤال: ياترى كيف ستكون يا أبي وما الذي فعلوه بك؟ كيف سأتعرف عليك؟
ويتابع شريط الصور دورانه وهي تهز رأسها بالنفي بعد كل صورة، حتى جاءت صورته.. أشارت بكفها إليه.. نعم هذا هو .. إنه هو.. ابتسامته البريئة على وجهه كما هي، كأنك نائمٌ في فراش بيتك يا أبي.. يا ربي لك الحمد، لم يشوّه جسده إلا أثر طلقة رصاصٍ على مقدمة رأسه.. اتجهت إليه وأزاحت الغطاء عن باقي وجهه.. نظرت إليه نظراتٍ هادئة حزينة، وانثنت عند رأسه على ركبتيها وبيدها الحانية تتلمس شعره ووجهه البريء المبتسم تهمس في أذنيه: حبيبي أبويه شصار بيك عيوني ..!! بابا.. تأخرت عليك؟ بعد عمري إنته.. منو ضربك ياعيني.. احجي وياي ولا تخف من أحد، ما ودك تجاوبني هسه حبيبي .. وتبتسم في وجهه وهي ترتجف .. تبتسم وشفتاها تصطكان من الألم.. تحاول أن تداعبه لتنسيه عذابات الموت، وتضحك بهدوء وتخاطبه: بابا حبيبي أني شلتك اليوم .. جنت دوم تكول ما عندي ولد يشيلني من أموت شنو رأيك فيني مو خوش ولد اني..؟! وتتساقط عليها قطرات من دمه تختلط بقطرات من دموعها.. تنظر إليه بهدوئها المعهود.. تسترجع في تلك اللحظة كل ما بذاكرتها من تاريخٍ طويل... طفولتها، شقاوتها، شبابها، عنفوانها، كيف كانت تتعبه عدواً خلفها... يلحق بها من مكانٍ لمكان، تقفز فوق رأسه حينما يأتي من العمل، تسرح شعره حين يغادر الدار.
كتاب حياتها يمر الآن أمامها، هذه صفحاتٌ بيضاء عليها خربشات بقلم رصاص قبل أن يخدشه الرصاص... صفحاتٌ تحكي قصة مولدها وطفولتها البريئة، وهذه صفحة سماوية عليها بعض الرموز والنقوش والقلوب حينما كانت تتبادلها مع صديقاتٍ لها في ساحة المدرسة، وهذه صفحة خضراء كلما نظرت إليها خفق قلبها شوقاً وحباً لقلبٍ طالما تضمخ بالحب، وعاش بالحب... الحب الذي مات! بل انتحر! وبجانبها صفحة مطوية تتأملها بخوف، ترتعش أصابعها خوفاً أن تفتحها، إنها صفحة المستقبل، كان وردياً قبل أيام، أو على الأصح كان مازال فيه بقعة من ضوء، واستحال سواداً الآن، أظلم، تلاشى، تبخر .. وتعود من شرودها لتنظر إليه بألم: تضمه إلى صدرها بكل قوة وتئن من أعماقها .. آآآآآه يا بابا آآه .. لن أحمّلك ما لا تطيق .. .. نم وأغمضْ هذي الجفون .. نم يا أبي فقد هدأت كل العيون .. ونحن على الحياة ننتظر الدور متى يكون .. هل تشعر بالبرد مثلي يا أبي..؟! صقيعٌ يا أبي ونحن مازلنا في تموز.. هي رعشة الموت التي تحيط بنا في كل لحظة وكل وقت.. هي رعشة الخوف على الدور القادم يا أبي، على من سيكون .. هي رعشة الألم من سؤال أمي عنك حين أعود إليها ويدي خالية من يديك، هي رعشة القهر حين تسألني البنات عنك...!! آهٍ يا أبي لو تدري ماذا ألقيت على ظهري من حملٍ تنوء به الجبال.. آهٍ يا أبي كم أحتاج إليك..!!
أبي.. هل أتاك حديث الأراذل ماذا يصنعون؟ رأيتهم في كل وادٍ يهيمون ويعبثون.. سمعتهم... دنّسوا كل بيتٍ طاهرٍ فأصبح حانةً لهم يلعبون ويسكرون..!!
أبي هل علمت كيف هدموا المساجد؟ هل عرفت كيف هتكوا أعراض الحرائر؟ قامروا علينا يا أبي واستحلوا العرض وتاجروا بالضمائر، فلم يدعوا شريفاً وتساوى عندهم من كان براً أو كان فاجراً..!!
أبي.. أعلم أنه حان الفراق.. فقد نثرت عليك كل ما بدفتري من أوراق..!! "
[/color]هذه هي الليلة الثالثة تمضي وكأنها قرنٌ يضاف إلى حياتها متلهفة لاهثة تبحث عمن يدلها عليه، لم تترك جاراً إلاّ وسألت عنه، لم تنرك شارعاً إلا وبحثت فيه عنه... يومٌ ثالث يمر وأخباره منقطعة، يا إلهي!! ما المخرج؟ وما الحيلة؟! ترفع كفيها في جوف الليل تتضرع إلى الله قائمة وقاعدة... إلهي نام الآمنون، وغفا المطئنون، وأنا يا ربي واقفة ببابك... ألوذ، بجلالك أستغيث وأعوذ، انقطعت بي السبل وضاقت بي الحيل، ولم يبق لي إلا سبيلك.. واشتد الظلام عليّ ولم يبق لي إلاّ نورك أسألك يا الله أن ترشدني إليه وتدلني عليه، اللهم إن لم يكن رحمةً بي وأنا الأمة الفقيرة إلى ذاتك، الواقفة على بابك، فرحمةً ببناتٍ في عمر الزهور، وطفلٍ يلتحف الخوف جسده المقهور، وأمٍّ رؤوم مسها الضر وأنت وهابٌ غفور... فارفق يا إلهي بحالنا، ودلنا على مكانه، يا أرحم الراحمين..
وبزغ الفجر وتسلل نوره إلى حجرتها حاطاً رحاله في عينيها اللاتي لم تعرفا النوم منذ ثلاث ليالٍ متعاقبة، وإذا هاتفها يرن، ويخاطبها من الطرف الآخر صوتٌ جهوري غير مألوفٍ ولا معروف: تعالي إلينا في مركز الطب العدلي للتحدث في أمرٍ هام.
إحساس غامض أصابها وأقعدها عن الحركة، وأخرسها عن الكلام بعد ذهولٍ وصمت مطبق قطعه صوت المتحدث على السماعة لتأكيد الموعد. أجابته بهدوءٍ بالغ: نعم سآتي.. سآتي.
استجمعت أنفاسها وقامت تجر خطواتها تستعد للذهاب إلى المقابلة، وأخواتها يتسابقن إليها وهي تغادر الدار تحاصرها دموعهن واستغاثتهن لها ألاّ تعودي إلاّ بخبرٍ عنه، وأمها من بعيد تتبعها بعينٍ وجلةٍ خائفةٍ تترقب، أما هي فليس في يدها ما تملكه غير ابتسامةٍ صفراء توزعها على أخواتها الثلاث وأمها وأخ صغير تتصارع في مخيلته أسئلة وعلامات لا يجد لها جواباً.
تمشي في شوارع بغداد.. آهٍ يا بغداد.. ماذا فعلتِ بنا يا مدينتي، أهذه عاصمة الرشيد؟ أهذه قبلة الحب ومهد العاشقين؟ آهٍ يا بغداد.. قسوتِ علينا فانحنى ظهري من فرط حبي لكِ.. هل مللتِ قينات الجواري لتسكبي خمرك في الجماجم والأجساد؟ هل مللتِ جريان الماء على أرضكِ يانهر الرافدين واشتقت لرائحة الدم وصليل الأصفاد؟ لماذا يا بغداد؟ لماذا يا بغداد..؟!
بقدر ما عشقتك كرهتك يا عراق.. بقدر ما آمنت بك كفرت بك يا عراق ..!!
ما هذه الأرض التي أصبحت تعج برائحة الدماء؟! ما هذه الأرض التي صارت مفروشة بالأشلاء؟! أي حياة هذه التي نحياها؟! وأيُّ مكانٍ هذا الذي لا يمكن أن يأوي حتى الجرذان..؟!
نعم .. إنها الجرذان القذرة التي انتشرت في الأرض فأخرجتنا من ديارنا.. هذا جرذ صغير وإن ارتدى قبعة على رأسه، ويلوك العلكة بفمه، مخفياً عينيه وراء نظارة شمسية، ومتشحاً بندقيته على كتفه، وذاك جرذٌ آخر، وهناك أيضاً واحد، جرذٌ فوق المدفع، وجرذٌ آخر يرتع، جرذٌ قبيح المنظر، وجرذٌ آخر أفظع، وآخر قذر المطلع.. لقد مللت رؤيتكم .. أكرهكم وأكره كل عبارات السلام التي نسجتموها على أجسادنا، وكتبتم أحرفها مدادها أحمر قانياً من دمائنا...!!
تجرُّ خطاها متثاقلة لتلحق بالموعد في الطب العدلي وبداخلها ترتسم عشرات الصور، وعشرات الحكايات. هل ستراه هناك؟ هل -سيخبرونها بأنهم نفوه وطردوه؟ بل ربما سيفاجئونها بأنه كان من غير المرضي عنهم في عمله فسجنوه؟ لا .. لا .. لا هذا ولا ذاك .. بل ربما أنه حصل خلافٌ بينه وبين رئيسه في العمل ففصلوه؟ أو ربما أنه أرهق نفسه في العمل كثيراً فأغمي عليه فلم يجدوا إلاّ أن يبحثوا عن أقرب مشفًى ليسعفوه؟
ابتسامة صفراء باهتة ترتسم على شفتيها.. ونظراتٍ حزينة ملتهبة في مقلتيها.. هي تعلم أنها تحاول أن تغالط نفسها بكل ما تتخيله، فهي تعلم إلى أين هي ذاهبة؟ وما الذي ينتظرها هناك..!! ولكنه الأمل الواهي، أو السراب الخادع الذي يعلل به الظمآن عطشه..!!
وصلت إلى المركز وعيناها تحدق به وببوابته التي تتزاحم عليها عشرات الأرامل والثكالى، وعشرات الشيوخ والعجائز، وعشرات الأطفال والرضع... صوتُ نحيبٍ هنا، وعويل هناك، ودماء هنا وأشلاء هناك، أناس قابعون على الجثث يتابعون شاشات عرض الصور، لم ترَ صور بشر ولكن أشباه وبقايا بشر .. كانت الشابة الوحيدة بينهم.. شابة!! أي شباب أبقيتم فيها؟ أشبابٌ يكتسي السواد حياته وتتيه من قدميه كل معاني الأمان؟! أشبابٌ تحفر في خديه العشرينية تجاعيد الزمان..؟! دخلت تتفحص وجوه مَن أمامها بين أرامل وعجائز وشيوخ... وهي وحيدةٌ ... لقد تركها الجميع .. الكل خشي أن يصطحبها إلى هذا المكان البائس، ليس خوفاً منه، ولكن خوفاً أن يكونوا ضمن أشلائه. تحدثها نفسها: لا أدري هل ألومهم وألوم جبنهم وخوفهم، أم أعذرهم وأعذر قسوة الزمان التي جعلتهم أقزاماً أمامه؟! حتى النخوة والشهامة جردتمونا منها يا جرذان!!
بشخصيتها الأنيقة على الرغم مما هي فيه، وبنظرتها الهادئة كعادتها وقفت أمامه وسألته: أين هو؟ لم يجتهد مدير المركز الطبي كثيراً في تهدئتها؛ فقد كفته عناء هذه المهمة، لقد كانت تعرف أنها قادمة على أمرٍ خطير في حياتها... على خطب من المحتمل أن يغيرها ويقلب حياتها رأساً على عقب..!!
لا أدري لماذا شعرتُ في لحظة ما أن عشقي للحزن لم يأتِ من فراغ على الرغم من المساحة الشاسعة بين الأحزان.. عظيمة هي دائماً بفرحها وترحها، في هدوئها وشقائها، عظيمة هي فتاة بغداد بروحها التي تعرف متى تكتم أنفاس الألم لكي تسعد من أمامها ولو على حساب مشاعرها.. كم سيحتمل فؤادها.. وكم ستظل تخبئ حُطام قلبها وراء ابتسامة تسعد بها من حولها..؟! كبرتِ على الهم ياصغيرتي .. وجارتَ عليكِ الأيام، ولكن ما يحيل الغصة إلى ومضة أملٍ أن قلبك لا يعرف الاستسلام.. ولا يعرف اليأس ولا الظلام.. قلبكِ يا فتاتي دوماً يشع نوراً من الله يعطيه القوة والصبر .. يلهمه الشجاعة والنصر..
أخذت مكانها وجلست وبدأ شريط الصور يدور أمامها مستعرضة صور الجثث الموجودة، وخفقات قلبها تتسارع، بل أوشكت على التوقف؛ هذا مطموس العينين ولكنه ليس هو، وهذا محروق من منتصف جسده ولكن ليس هو، وهذا مقطوع الأطراف، وهذا مخروم الجسد، وهذا منزوع العينين، وهذا مبتور الساقين، وهذا مقصوص الشفتين .. يا الله يا الله، وتتابع الصور، وبعد كل صورة يأتيها في لحظة خاطفة ألف سؤال وسؤال: ياترى كيف ستكون يا أبي وما الذي فعلوه بك؟ كيف سأتعرف عليك؟
ويتابع شريط الصور دورانه وهي تهز رأسها بالنفي بعد كل صورة، حتى جاءت صورته.. أشارت بكفها إليه.. نعم هذا هو .. إنه هو.. ابتسامته البريئة على وجهه كما هي، كأنك نائمٌ في فراش بيتك يا أبي.. يا ربي لك الحمد، لم يشوّه جسده إلا أثر طلقة رصاصٍ على مقدمة رأسه.. اتجهت إليه وأزاحت الغطاء عن باقي وجهه.. نظرت إليه نظراتٍ هادئة حزينة، وانثنت عند رأسه على ركبتيها وبيدها الحانية تتلمس شعره ووجهه البريء المبتسم تهمس في أذنيه: حبيبي أبويه شصار بيك عيوني ..!! بابا.. تأخرت عليك؟ بعد عمري إنته.. منو ضربك ياعيني.. احجي وياي ولا تخف من أحد، ما ودك تجاوبني هسه حبيبي .. وتبتسم في وجهه وهي ترتجف .. تبتسم وشفتاها تصطكان من الألم.. تحاول أن تداعبه لتنسيه عذابات الموت، وتضحك بهدوء وتخاطبه: بابا حبيبي أني شلتك اليوم .. جنت دوم تكول ما عندي ولد يشيلني من أموت شنو رأيك فيني مو خوش ولد اني..؟! وتتساقط عليها قطرات من دمه تختلط بقطرات من دموعها.. تنظر إليه بهدوئها المعهود.. تسترجع في تلك اللحظة كل ما بذاكرتها من تاريخٍ طويل... طفولتها، شقاوتها، شبابها، عنفوانها، كيف كانت تتعبه عدواً خلفها... يلحق بها من مكانٍ لمكان، تقفز فوق رأسه حينما يأتي من العمل، تسرح شعره حين يغادر الدار.
كتاب حياتها يمر الآن أمامها، هذه صفحاتٌ بيضاء عليها خربشات بقلم رصاص قبل أن يخدشه الرصاص... صفحاتٌ تحكي قصة مولدها وطفولتها البريئة، وهذه صفحة سماوية عليها بعض الرموز والنقوش والقلوب حينما كانت تتبادلها مع صديقاتٍ لها في ساحة المدرسة، وهذه صفحة خضراء كلما نظرت إليها خفق قلبها شوقاً وحباً لقلبٍ طالما تضمخ بالحب، وعاش بالحب... الحب الذي مات! بل انتحر! وبجانبها صفحة مطوية تتأملها بخوف، ترتعش أصابعها خوفاً أن تفتحها، إنها صفحة المستقبل، كان وردياً قبل أيام، أو على الأصح كان مازال فيه بقعة من ضوء، واستحال سواداً الآن، أظلم، تلاشى، تبخر .. وتعود من شرودها لتنظر إليه بألم: تضمه إلى صدرها بكل قوة وتئن من أعماقها .. آآآآآه يا بابا آآه .. لن أحمّلك ما لا تطيق .. .. نم وأغمضْ هذي الجفون .. نم يا أبي فقد هدأت كل العيون .. ونحن على الحياة ننتظر الدور متى يكون .. هل تشعر بالبرد مثلي يا أبي..؟! صقيعٌ يا أبي ونحن مازلنا في تموز.. هي رعشة الموت التي تحيط بنا في كل لحظة وكل وقت.. هي رعشة الخوف على الدور القادم يا أبي، على من سيكون .. هي رعشة الألم من سؤال أمي عنك حين أعود إليها ويدي خالية من يديك، هي رعشة القهر حين تسألني البنات عنك...!! آهٍ يا أبي لو تدري ماذا ألقيت على ظهري من حملٍ تنوء به الجبال.. آهٍ يا أبي كم أحتاج إليك..!!
أبي.. هل أتاك حديث الأراذل ماذا يصنعون؟ رأيتهم في كل وادٍ يهيمون ويعبثون.. سمعتهم... دنّسوا كل بيتٍ طاهرٍ فأصبح حانةً لهم يلعبون ويسكرون..!!
أبي هل علمت كيف هدموا المساجد؟ هل عرفت كيف هتكوا أعراض الحرائر؟ قامروا علينا يا أبي واستحلوا العرض وتاجروا بالضمائر، فلم يدعوا شريفاً وتساوى عندهم من كان براً أو كان فاجراً..!!
أبي.. أعلم أنه حان الفراق.. فقد نثرت عليك كل ما بدفتري من أوراق..!! "
R.F.Z- عضو مميز
- عدد الرسائل : 67
العمر : 38
تاريخ التسجيل : 15/12/2007
رد: حكاية فتاة من بغداد
alhmdo lilah ouasalato ala rassol lillah jazaca allah khairan ala hada almaodoa enna lellah ouena elaihi rajioun
abou ilias- عدد الرسائل : 1
العمر : 57
تاريخ التسجيل : 20/01/2008
مواضيع مماثلة
» بغداد
» طفل يعرب كلمة بغداد إعرابا تدمع له العين
» حكاية الملك والاعرابى
» كــــــــونى ملكــــــــــــة, إلى كل فتاة.....إلى كل شابة..
» في ذكرى النكبة:ياسر عرفات ابو عمار لكل صورة حكاية
» طفل يعرب كلمة بغداد إعرابا تدمع له العين
» حكاية الملك والاعرابى
» كــــــــونى ملكــــــــــــة, إلى كل فتاة.....إلى كل شابة..
» في ذكرى النكبة:ياسر عرفات ابو عمار لكل صورة حكاية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى